«ممم! التوت البرّي، مع حمضية برتقالية بارزة… ممم! والنبيذ الأحمر» هذا ما قاله صانع القهوة على يميني مندفعًا ليدون ذلك على دفتر ملاحظاته الصغير، إلا أنّ بائع القهوة الآخر على شمالي قاطعه قائلًا: «حقًّا! حمضية برتقالية واضحة، وأعتقد أنها أقرب قليلًا إلى اليوسفي، ما رأيك؟». فما كان مني إلّا أن أعلّق قائلةً: «بالطبع! اليوسفي برتقاليّ»، قلتُ ذلك بتوتر، على أمل أن أبدو خبيرة في القهوة كأيّ شخصٍ آخر في ذلك المجلس؛ بينما في الحقيقة كنت أسأل نفسي: «عجبًا! ما الذي يفعله هؤلاء الناس؟ ما هي إلا قهوة حامضة قليلًا. هل فاتني شيء ما يا تُرَى؟»
كانت تلك أولى جلساتي لتقييم القهوة منذ 7 سنوات مضت. أنا كالكثيرين (سأكون صادقة، الآن!) مررت بلحظات عصيبة أثناء محاولة فك رموز عجلة النكهات وأنواعها؛ بدت جميع النكهات “كالقهوة” –بالنسبة لي- طبعًا بعضها بدا أكثر حمضية من الآخر، والبعض الآخر أكثر مرارة من البقية، إلا أنّ جمعيها تَبَدَّى في كلّ الأحوال، “قهوة”.

لاحقًا، تخيّلت أنّه سيكون من الأسهل لي تذكّر أسماء الأنواع المختلفة من القهوة، ومن ثم حفظ النكهات المرتبطة بها. وهكذا استطعت بهذه الحيلة المخادعة، أن أعمل كباريستا من المستوى المتوسط على مدى العامين التاليين، مُستغلّةً حصيلة المصطلحات والملاحظات التي كنت أجمعها خلال حضوري لجلسات تقييم القهوة جلسةً بعد أخرى؛ كنت أعرف جيدًا ما الذي كنت أتحدث عنه، بينما في الحقيقة، لم يكن بمقدوري فعليًا تمييز النكهات من خلال التذوّق.
كاد مظهري الزائف ذاك أن يكون سببًا لأن يتملكني الإحباط، فقررت أن أحصّن نفسي بتعلم شيء ذا قيمة في اختبارات تذوّق القهوة. أردت أن يكون لدي قدرة حقيقة على التذوّق بحماس صادق كأي شخص ممن حولي؛ أردت أن يكون لي آرائي الخاصة بدلًا من ترديد آراء الآخرين كالببغاء.
حينَئِذ قررت أن أغوص في علم الغذاء لأكتشف ما بداخل القهوة -من ناحية كيميائية- وعلى وجه التحديد، كنت مهتمة بمعرفة ماهية هذه الحمضية السحرية، ولما كلّ تلك الجلبة حولها.
وإليك ما تمكنت من تعلّمه، والذي كان أكثر منطقية بالنسبة لي، كما أتمنى أن يكون كذلك بالنسبة لك أيضًا.
لمحة عن بعض الأحماض في القهوة
الأحماض هي مادة كيميائية تتميز بطعمها الحامض. في الحقيقة، كلمة “acid” باللاتينية تعني “حامض” بالمعنى الحرفي. وتمتلك المحاليل المائية للأحماض درجة حموضة أقل من pH7، وكلما قل الرقم الهيدروجيني، زادت الحمضية.
والأحماض هي منتجات متواجدة طبيعيًا في الطعام كالليمون، والخل، واللبن، وحتى في القهوة. فعليًا، هنالك المئات من المركبات الحمضية المختلفة في القهوة وحدها، وتتراوح من الأحماض المعروفة مثل حمض “الستريك” إلى الأحماض الأكثر تعقيدًا مثل حمض “الكلوروجينيك”. لكن لغايات هذا المقال، سأتحدث فقط عن الأحماض الأساسية التي تؤثّر على الطعم.
حمض الستريك
حمض الستريك (Citric Acid)، وكما يشير اسمه، موجود في الثمار الحمضية بتركيزات عالية. في الحقيقة، يمكن أن يشكّل تقريبًا 8% من الوزن الجاف لتلك الأطعمة. ويُعد من أكثر الأحماض تواجد في جميع أنواع الفاكهة والخضراوات، كما أنه سهل التمييز.

حمض الماليك
حمض الماليك (Malic Acid) والمعروف بـ “حمض التفاح” له نكهة مرتبطة غالبًا بالتفاح الأخضر (تم اشتقاق اسم الحمض من الكلمة اللاتينية “malum” والتي تعني “تفاح”). يمكنك أن تجد حمض الماليك في أنقى صوره في عشبة الراوند{1} والتي يشكل الحمض نكهتها الأساسية.
في عالم الطهي، حمض الماليك مرتبط غالبًا بالليمون الأخضر، لكن سيكون من الأسهل أن تفكر به على أنه “نكهة الفاكهة غير الناضجة”؛ فالحمض بشكل عام، يقل تركيزه بزيادة نضج الثمرة، وهذا ينطبق على أي فاكهة خضراء كالعنب والكيوي وعنب الثعلب (الكشمش الشائك).

حمض الطرطريك
يرتبط حمض الطرطريك (Tartaric Acid) عادةً بالعنب؛ لتركيزه العالي في هذه الفاكهة، ولكنّ هذا ليس المكان الوحيد الذي قد تجده فيه، فأملاح حمض الطرطريك والمعروفة بـ “الطرطرات” أو “ثنائي طرطرات البوتاسيوم” تتطوّر بشكل طبيعي على شكل قشور أثناء عملية صناعة النبيذ، وتُحوَّل إلى مسحوق يُستخدم كعامل تخمير في إعداد الطعام، ولأغراض طبية أيضًا.

ومن أكثر مميزات حمض الطرطريك لفتًا للانتباه في حقل التذوق، هي تأثيره في الفم؛ لأنّه يتسبب في إفراز كمية كبيرة من لعاب الفم ويترك طعمًا قابضًا على الأطراف الخلفية للسان –إضافةً لكونه أحد المكونات الرئيسة في السكاكر الحامضة.

حمض الخل
حمض الخل أو الخليك (Acetic Acid) ويعرف أيضًا بحمض إيثانويك هو حمض له وضع خاص؛ فبجانب طعم الخل الواضح فيه ورائحته اللاذعة، من الممكن أن يعطي حدّة خفيفة أو نكهة تشبه نكهة الليمون عندما يُضاف بكميات قليلة، أما في أعلى مستويات تركيزه، فيكون بطعم ورائحة التخمير.
كما يمكن أن ينتج عن طعمه ورائحته غير التقليديين، خاصةً عند مزجها مع نكهات أخرى كالسّكر، مذاق مشابه لمذاق النبيذ أو الشمبانيا.

مقياس الرقم الهيدروجيني
الآن، وبعد هذه الفكرة المختصرة عن ماهية عدد من الأحماض المختلفة وكيف يكون مذاقها، يأتي السؤال عن دور الحمض في جعل مذاق القهوة كالبرتقال.
أسهل طريقة لفهم الأحماض هي أن تفكر بالأحماض على أنها مفهوم مجرد؛ “حمضية البرتقال” لا تعني حرفيًا أن مذاق قهوتك سيكون كطعم البرتقال، إنما تعني أنه أقرب لأن يكون “حامض كالبرتقال“.
إذا ما فكرت بهذا التفسير، ستصبح ملاحظاتك باختبار التذوق، فجأة، أكثر منطقية. خذ التوت على سبيل المثال، وبما أنه أقل حموضة من الليمون، ستكون القهوة “بحموضة التوت” بلا شك أقل حمضية من القهوة “بحموضة الليمون”. تبدو هذه الفكرة منطقية، ما رأيك؟
للمساعدة في توضيح هذا الأنموذج، قمت بعمل مخطط مبدئي يربط بين الثمار الشائعة مع قيم الأس الهيدروجيني المتطابق معها. يمكنك بالطبع أن تجد جداول أخرى أكثر تفصيلًا وشمولًا (غالبًا لا تكون مُركّزة حول القهوة) في معظم مواقع علم الأغذية أو في مواقع هيئات الغذاء والدواء (FDA).

الجمع بين النكهات والأس الهيدروجيني
ربما لاحظت في الصورة أعلاه أن بعض الفاكهة لها نفس القيمة الهيدروجينية، إلا أن لكل منها مذاق مختلف تمامًا عن الآخر. خذ التفاح والبرتقال على سبيل المثال، فما علاقة الأس الهيدروجيني بالنكهة؟
في حالة التفاح والبرتقال، يكون نوع الحمض الغالب للفاكهة مختلف، فالتفاح الأخضر يتكون في المقام الأول من حمض الماليك بينما يمتلئ البرتقال بحمض الستريك.
تخيل الآن أن لديك قهوة إفريقية حسنة المذاق بحمضية بارزة ومحمصة بدرجة تحميص فاتحة، وبعد تحضيرها، ظهرت قراءة حمضيتها مساوية لـ 4.6 على مقياس درجة الحموضة، هنا عليك البدء بالبحث عن درجات الحمضية المشابهة في العنب، والبرقوق، والخوخ، والأناناس… وهكذا. ثم ستلاحظ أنها تركت طعمًا قابضًا في فمك، وهذه صفة من صفات حمض الطرطريك، هنا يمكنك تصنيفها على أنها “حمضية العنب” أو أي شيء آخر من عائلة الفواكه الحامضة (الكرز الحامض، الخوخ…)، ومن المحتمل أن يمنحك هذا المزيج من الحموضة العنبية ونكهات حمض الخل المخمّرة، نوعًا من حمضية النبيذ.
وبالمثل، يمكن تعريف نكهة الحمضيات ذات الأس المنخفض بأنها “حمضية الليمون”، بينما ذات الأس المرتفع يمكن أن تكون أقرب للبرتقال. في المقابل، كثيرًا ما يكون لحمض الماليك بأس منخفض نكهات عديدة تصنف ضمن فئة “الليمون”، بينما تختلف في درجات الحموضة الأعلى فتكون أقرب إلى الراوند أو التفاح الأخضر أو حتى الجريب فروت.
بمجرد أن تفهم هذه الفكرة، سيصبح اختبار القهوة أكثر سهولة. لتنسَ التظاهر به، فقد أصبح لديك الفهم الكافي لأساسياته.
طوّر مهاراتك في تذوّق القهوة
من الجيد دائمًا أن تمارس مهارات التذوّق عن طريق أخذ عينات واسعة من النكهات. ولا شيء يساعد في تطوير خبرتك بفهم الحمضية أكثر من تجربة أحماض متنوعة!
ما فعلته في الماضي هو شراء هذه الأحماض بصورتها النقية بالإضافة إلى المياه المقطرة، وصنع محاليل لكل نوع بإضافة ما نسبته 1-2% من الحمض إلى الماء المقطر. تعد هذه التجربة مثالية للمبتدئين؛ تكون نتائجها واضحة بالفعل، أضف إلى ذلك عدم الحاجة لتذوّق جميع النكهات الأخرى كالحلاوة أو المرارة.

بعد أخذ فكرة وافية عن ماهية مذاق الأحماض النقية، يمكنك الانتقال إلى التجربة باستخدام الطعام الحقيقي. قم بجلب طبق كبير من الفاكهة وبعض العينات المختلفة من أنواع الخل، ثم قم بتصنيفهم تبعًا لأكثر الأحماض وضوحًا بالنسبة لك.

أهم ما في اختبار القهوة إن أتقنته، أنّه يساعدك على فهم القهوة ويمنحك شعور الاستمتاع في تحضيرها. ومع أن الغوص في استكشاف سمات الأحماض قد يبدو أشبه بدخول مغارة، إلا أنه وبمجرد أن تعرف خصائص المذاق الذي تبحث عنه، سيكون من السهل جدًا التمييز بين الأحماض والنكهات المرتبطة بها، وفي أثناء ذلك، ستجد نفسك خبيرًا في الأحماض.
وفي الختام، نتمنى أن تكون قد استفدت من هذا المقال، ويسعدنا أن تشاركنا رأيك حول الطرق التي يمكن من خلالها تبسيط مفهوم الحمضية في عملية التذوق، أو أخبرنا كيف كانت أول جلسة لك في اختبار القهوة، وكيف كان شعورك حول حمضية القهوة حينها؟ دعنا نعرف ذلك في التعليقات بالأسفل، أو على صفحتنا على الفيسبوك أو تويتر.
ترجمة: untold.coffee
- الراوند عشبة بطاطية نافعة، يستخدم المسحوق المستخلص منها لفتح الشهية وعلاج الإمساك المزمن واضطرابات والتهابات المعدة، ويُستعمل مغلي أو صبغة جذر الراوند كمقو للمعدة.[↩]